عُرف الشعب المصري بقدرته على السخرية اللاذعة من أي سلوك أو ظاهرة لا تروق له، وعُرف بمهارته في صناعة النكتة السياسية والاجتماعية ذات المغزى، كما عُرف بقدرته على الاحتجاج السلبي بتوجيه الشتائم والسخرية من المستعمرين والحكام المستبدين.
التاريخ حفظ لنا سخريتهم من المعتمد البريطاني ريجنالد ونجت الذي نفى سعد زغلول ورفاقه، فوصفوه «بونجت وش النملة اللي عمل العملة»، وعندما سخر صامويل هور من جهل المصريين بالديمقراطية نعتوه في مظاهراتهم بابن الطور قائلين: «يسقط هور ابن الطور».
ودفعهم تحليلهم للأوضاع الاقتصادية في ظل حكم جمال عبد الناصر والسادات ومبارك إلى القول الذي اشتهر بأن «واحد أكلنا المش، والتاني علمنا الغش، والثالث لا يهش ولا ينش» فعبد الناصر كان رافضاً لقيم الاستهلاك وخطط لتحقيق تنمية معتمدة على الذات، أما السادات فطبق سياسة الانفتاح التي وُصفت بالانفتاح السداح المداح، وتسببت في ظهور اللصوص الذين غشوا الشعب وقدموا له أكل الكلاب والقطط والسلع الفاسدة، ولأن الثالث استمر على نهج السادات، فوصفوه بعدة أوصاف أشهرها «لافش كيري» أي البقرة الضاحكة.. والقائمة تطول شعب إن لم يجد ما يسخر منه، سخر من أحواله وجلَد ذاته.
من شهور ليست بعيدة بدأنا نسمع مصطلحات تسخر من الذين جمعوا الثروة والسلطة وأصبحوا يشكلون طبقة تمتلك المليارات والملايين، رغم فقر الغالبية العظمى من الشعب. صدرت عن رموز هذه الطبقة بعض الأحاديث على وسائل التواصل الاجتماعي، تشير إلى مستواهم الاجتماعي وطبيعة حياتهم، وهو ما مثل صدمة للمصريين.
جاء رد الفعل سريعاً في نحت مصطلحات جديدة تعبر عن هذه الظاهرة.
الأول: ناس إيجيبت، وهو مصطلح يشير إلى طبقة جديدة تتسم بالثراء الفاحش وتختلف في أسلوب حياتها وقيمها وسلوكياتها عن سلوك المصريين من أبناء الطبقة الوسطى وجماهير العمال والفلاحين الفقراء الذين أُطلق عليهم المصريين الحقيقيين.
المصطلح العبقري الثاني: الماميز، وهو تعبير ساخر أيضاً أُطلق على بنات هذه الطبقة عندما يتزوجن، فهؤلاء ماميز ولا يسمحون لأولادهم أن ينادوهم بماما.
المصطلح الثالث: هو الساحل الشرير، وهو مصطلح عبقري أيضاً يفرق بين الشواطئ العادية في مصر من ناحية، وشواطئ هذه الطبقة. المثير للإعجاب، أنه قد وضع خطاً افتراضياً يفصل في الساحل الشمالي بين الساحل الطيب والشرير، فالساحل الطيب ينتهي قبل منتجعات مارينا. ولمرتادي الساحل الشرير سلوكيات تختلف تماماً عن سلوك أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة الذين نجحوا في استغلال قليل من الأيام لقضاء الإجازة مع أولادهم بتكلفة منخفضة.
وبالطبع المصطلحات الثلاثة مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، فناس إيجيبت هم أنفسهم الذين يسكنون الساحل الشرير، وهم الذين يربون أولادهم تربية تبتعد تماماً عن قيم وأخلاق المصريين الحقيقيين، فالماميز لا يفضلون تربية أولادهم بالطريقة )البلدي( ولا يلحقون أولادهم بالمدارس أو الجامعات الحكومية، ويركزون على الموضة لذلك ينشغلون بحوارات الجروبات، ويعتمدون على نصائح ليست تربوية لأنها لا تستمد من مصادر تربوية موثوقة. وهؤلاء يهمشون دور الأب، ويركزون على المظاهر، «لازم أولادهم يلبسوا أحدث موضة، ولازم يحضروا حفلات أشهر المطربين، ضروري أولادهم يتكلموا في المنزل والنادي باللغة الإنجليزية أو الفرنسية لأنه عيب أن يتكلموا العربية».
وفي الساحل الشرير ينفق الأولاد والبنات القصر آلاف الدولارات في عدة أيام ويتفاخرون بركوب أحدث موديلات السيارات، التي يتجاوز سعر أرخصها عشرة ملايين جنيها.
لقد تكونت ثروات معظم أفراد هذه الطبقة بسرعة لافتة للنظر، وقاموا بشراء فيلات الساحل الشمالي ومدينتي والرحاب وغيرها، وتنافسوا في شراء كل ما هو باهظ الثمن من ملابس وسيارات، وتميزوا في التفاخر عبر وسائل التواصل الاجتماعي بثرواتهم، الأمر الذي استفز أبناء الطبقة الوسطى والفقراء.
لقد ارتبط هذا الثراء الفاحش بإنشاء قيم وسلوكيات غير مقبولة من «المصريين الحقيقيين»، وهو مصطلح جديد يفرّق بين مصري ومصري، ولذلك فإن الأمر خطير ويستحق الدراسة.
فالمجتمع المصري بدأ يعاني من تحول مخيف في منظومة القيم، فالعمل الشريف لن يوفر للشباب دخلًا ذا قيمة، والتعليم لم يعد وسيلة الحراك الاجتماعي الصاعد لأبناء الطبقة الوسطى والفقراء.
لذلك لا نبتعد عن الحقيقة إذا أشرنا إلى أن الشعب العبقري عندما نحت المصطلحات الثلاثة، لم يكن هدفه السخرية فقط من طبقة مستغلة نهابة، ولدت مع الانفتاح السداح المداح الذي أطلقه الرئيس أنور السادات وتوحشت في زمن الرئيس حسني مبارك، بعد بيع مصانع وشركات القطاع العام والتوجه إلى الخصخصة، وهي الطبقة التي هرولت بعض رموزها للتطبيع مع العدو الصهيوني، بل كان هدفه التحذير من خطورة الظاهرة على التماسك الاجتماعي والانتماء والهوية.
اقرأ أيضاًفي عصر الذكاء الاصطناعي.. الترجمة البشرية تحافظ على الهوية والثقافة
مؤتمر الذكاء الاصطناعي يناقش تأثير التكنولوجيا على الهوية الثقافية